بلقم الدكتور مناف الحمد
مجرد تجربة رقم 2
لم يكن انفجار ثورة السوريين حدثًا عاديًا، كما أنه لم يكن مفتقرًا لأسبابه الموضوعية، فلقد عانى السوريون عبر عقود حكم نظام الأسد الأب والابن شتى أنواع القهر، وجربوا كل صنوف الخوف في بلدهم التي أصبحت سجنًا كبيرًا يظلل الخوف من التعبير كل زاوية من زواياه.
ولم يكن الربيع العربي إلا محرضًا لممكن موجود بالقوة، ينتظر أي سبب يخرجه من طور الإمكان إلى طور الفعل.
بعد أكثر من عشر سنوات عجاف جرت فيها تحولات حرفت ثورة الحرية والكرامة عن مسارها يمكن رصد بضعة أسباب لتحول هذه الثورة المالكة لكل أسبابها الحقة إلى حدث تعبث فيه أطراف لكل منها أجندتها، وتحول سوريا التي نعرفها إلى أخرى بملامح جديدة تحدد مصيرها قوى احتلال متنوعة.
ولا يمكن بالطبع -وفق أي منهجية علمية- عزو ما أصاب الثورة من تحولات إلى سبب وحيد كمؤامرة حاكت أطرافها قوى خارجية، أو إسلام سياسي نخرها من داخلها، فليس أبعد في السذاجة السياسية من محاولة تفسير الظواهر بعامل واحد؛ لأن هذا المنهاج الأحادي في التفسير لا يصلح لتفسير سقوط تفاحة من شجرة ناهيك بحدث جلل ساهم في انعطاف التاريخ في المنطقة انعطافة حادة.
ولا يتسع المقام لتتبع الأسباب التي تكمن خلف ما حدث، ولكن ظاهرتين مهمتين كنت شاهدًا حيًا على إحداهما، ومراقبًا للأخرى يمكن أن تصلحا عاملين تفسيريين محرضين على إعادة النظر.
ما أسميه دائمًا: “التخندق الأيديولوجي” ليس تعبيرًا بلاغيًا فاقدًا لمحتواه الخبري الحقيقي، فقد كانت الحواجز الصلبة بين الثوار السوريين قائمة على أسس أيديولوجية، وهي لم تلبث أن كشفت عن وجهها بعد شهور بسيطة من وحدة الصوت إبان السلمية، وباتت أكثر تجليًا على صعيد من يسمون بالنخب.
والحال أن حملة هذه الأيديولوجيات إسلامية أم يسارية أم قومية لم يكونوا مدركين لفواتهم التاريخي؛ بمعنى تجاوز العصر لبناهم المصمتة، ولا مدركين لحجم المفارقة بين شعار الثورة المطالب بالديمقراطية، وبين ما يمثل سقفًا لأفقهم السياسي والفكري.
فلا يمكن للديمقراطية أن تتحقق مع سقف مركزي سواء أكان حقيقة دينية أم غير دينية؛ لأن سقفها بأي سقف يقطع حبل التوتر الخلاق بين مختلفين بحكم الضرورة، ولا يعني هذا الدعوة إلى فوضى وشرود في فضاءات لا ضوابط لها، وإنما يعني وضع الحدود التي يتحرك ضمنها الفاعلون الاجتماعيون عبر حوار تداولي يفضي إلى اتفاق يمكن عبر استمرار الحوار تغييره في سيرورة للتداول الديمقراطي لا يحق لأي صاحب أيديولوجيا إجهاضها.
ولعل نظرة بسيطة إلى المجادلات عبر فضاءات الإعلام بين حملة الأيديولوجيات المختلفة كفيلة بكشف المزايدات بين متوهمين بالقبض على العلل الفاعلة للأحداث بالانطلاق من عقائد دينية أو عقائد دنيوية لا تقل خطرًا في إقصائيتها وتطرفها.
لطالما احتدم السجال في فعاليات كثيرة بين إسلاميين معتدلين وبين يساريين حول استحقاق كل منهما في تمثيل النضال ضد الاستبداد، وهي سجالات لا تفضح الانفصال عن واقع يغرق فيه أطفال المخيمات في الطين، وإنما تفضح انفصالًا عن واقع معولم ما بعد علماني لا يزال كل طرف يحاول مقاربته بأدوات معرفية وسياسية أكل عليها الدهر وشرب.
كان أكثر من يسير في ظل تخندق جئت على ذكر بعض مظاهره أن يصبح الارتهان لقوى إقليمية ودولية سيد المشهد وبعد فترة قصيرة من انطلاق الثورة، ولا حاجة إلى تأكيد خروجها من أيدي السوريين بسبب هذا الارتهان، فهو من باب تأكيد المؤكد.
أما العامل الثاني الذي جرى رصده عن كثب، فهو جهل المعارضة السورية بطبيعة النظام السوري الذي أسسه الأسد الأب، هذا التأسيس الذي كان من أسباب صعوبة اجتثاث قواعده قيامه على دعامتين:
تحول الأسد الأب إلى مقدس عند طائفته، وهو تقديس يمكن لحامله أن يبذل مهجته في الدفاع عنه؛ لأنه من مكونات وجوده ومن عوامل بقاء هذا الوجود، وهو ما يفسر بقاء الأسد الأب حاضرًا في الوعي الجمعي على الرغم من تغييب الثرى لجسده.
ولأن الثائرين يريدون كشف حقيقة هذا المقدس الذي صنع أسطورة قدسيته بغموض لف معظم مسيرة حياته السياسية، فقد كان طبيعيًا أن يكون الصراع مع المدافعين عن سر مقدسهم صراعًا ضاريًا يطحن في أتونه المشارك فيه ومن يفكر في المشاركة. ولكن المفارقة أن مقدس المدافعين واحد ومعروف، بينما يتشبث الثائرون المختبئون خلف شعار الديمقراطية والدولة المدنية كلّ بمقدسه؛ الأمر الذي جعلهم شيعًا متفرقين، ودفع بكل طرف منهم إلى حضن.
وارتباط هذا النظام عبر أوراق زرعها مؤسسه في أكثر من مكان إلى نظام لم تكن المعارضة السورية تتخيل حجم ممانعة تغييره من طرف قوى إقليمية ودولية.
لا شك أن انكسار الميزان الأخلاقي للمنظومة الدولية أمر واقع، وأن الصمت المشين على جرائم النظام أكبر معبر عن تواطؤ ضمني مع القاتل، ولكن البحث عن أسباب ما جرى لا تكون بإلقاء المسؤولية على كتف غير المعني بالقضية إلا بقدر ما تحقق مصلحته، وإنما بالحفر عميقًا في الأرض التي نقف عليها وقد مادت من تحت أقدامنا بتخندقنا الأيديولوجي الذي أدى إلى ارتهاننا، وإلى تحول قسم من المرتهنين إلى خانة الارتزاق، وبامتلاك أدوات فهم سياسي أثبتت نخبنا افتقارها إليها، وبجهلنا بضرورة صنع مقدسنا المشترك، وهو في حالنا هذه لا يمكن أن يكون إلا حريتنا التي سُفح على قربانها دم شبابنا وأطفالنا، ولا تزال تناجيها أنات معتقلينا في أقبية الظلام.